مؤسسة سميثسونيان.
I
لقد حولنا الحجر الصحي، بطريقة مذهلة إلى علماء اجتماع مرتجلين في الحياة اليومية. لقد أثر، بقوته الكبيرة، على ما كان عادياً، جعلنا نفكر بشكل جماعي في الطرق الجديدة التي ننظم بها حياتنا اليومية. العنصر الأكثر إشكالية هنا هو المنزل، الذي اكتشفناه من جديد. إن وجودنا المستمر داخل أربعة جدران، والعمل من المنزل، وكذلك تعلّم أطفالنا عن بعد، أعاد تعريف منزلنا، وأجبرنا على إعادة النظر في ترتيب المنزل وإعادة تنظيم مساحته لمهام جديدة، مثل إنشاء مكتب مع محيط مقبول لإجراء المقابلات عبر الفيديو، فضلا عن تخصيص مساحة لممارسة الرياضة، وسوى ذلك. أصبح المنزل فجأة مكتظاً بالسكان، وتجمد فضاؤه الاجتماعي، حيث لا يتواجد أفراد الأسرة دائما جنباً إلى جنب، ولكن أيضا الجيران الذين/اللواتي عزلوا/ن أنفسهم/ن مثلنا وذكرونا بوجودهم/ن من خلال وسائل مختلفة. يبدو الأمر كما لو أن المنزل قد توقف عن كونه مساحة خاصة حصرية، إذا امتلأ بممارسات التنظيف الجديدة واكتسب مضامين جديدة تتعلق بالسلامة. لقد أصبح نوعاً من المأوى، حيث يكون الباب الرئيسي عبارة عن حدود أو بوابة تؤدي بنا إلى عالم خطير.
لا تؤدي التجارب والمشاعر التي أنتجتها التدابير القسرية إلى ظهور مواضيع جديدة فحسب للعمل عليها، إنما تسمح لنا بالعودة إلى القديم، لمراجعته أو النظر إليه من منظور مختلف. بالنسبة لي، أصبح موضوع موضوع باللغة الروسية، “بيت لمترحل/ة؟”] شاركت بتأليفه مع أولغا تكاتش، لابوراتوريوم: المجلة الروسية للأبحاث الاجتماعية، العدد ٣، (٢٠١٠): ٧٢-٩٥منزل المهاجرين/ات- وهو موضوع عملت عليه سابقاً مع زميلتي أولغا تكاتش- على هذا الشكل. بينما كنت أعزل نفسي في شقتي القديمة في سانت بطرسبورغ، غالباً ما اتجهت أفكاري إلى أصدقائي ومعارفي- ومن قابلتهم/ن من مهاجرين/ات من وسط آسيا- الذين/اللواتي جاؤوا/ن إلى المدينة للعيش فيها. كيف حالهم/ن خلال الحجر الصحي؟ هل يشعرون/ن بالحصار أم أنهم/ن يستطيعون/ن إعادة تعريف وضعهم/ن والتطبّع معه؟ هل عادوا/ن إلى ديارهم/ن في طاجيكستان وقيرغيزستان وأوزبكستان أم هل مكثوا/ن في المنزل بسانت بطرسبورغ؟ كيف أعادوا/ن تنظيم حياتهم/ن اليومية؟ هل رأوا/ين حتّى ضرورة للقيام بذلك؟ أجد أن الإجابات على هذه الأسئلة مهمة من وجهة نظر البحث، لأن المهاجرين/ات- المترحلين/ات الجدد- يعيشون/ن باستمرار، كما كانوا/ن يفعلون/ن، ضمن نمط إعادة تجميع منازلهم/ن.
II
"المترحلون"، "المشردون/ات"، "أشخاص ذوو الحركية الكبيرة"- هذه لائحة قصيرة جدا من الأسماء التي تستعمل لوصف المهاجرين/ات في وقتنا الراهن. كلهم من الشعوب التي تشكل الهجرة بالنسبة إليهم/ن "مفكَّر بها، ممكنة، أو حتى مفيدة" "مفكَّر بها، ممكنة، أو حتى مفيدة" شيانغ بياو، “صناعة موضوعة الحركية: كيف تتقاطع الهجرة والإصلاح المؤسساتي في شمال شرقي الصين”، حوار، ٥٠، (٢٠٠٧): ٧٠والحركة هي بشكل طبيعي مُضمنة من خلال مشاريع حياتهم/ن واتجاهاتهم/ن. الهجرة المعاصرة شديدة الحركية: لا تقتصر على التحرك ضمن المكان، ولكن حياتهم/ن بأكملها تتغير بشكل جذري، فضلا عن الوقت وتغيُّر وتجدُّد مكان عملهم/ن وإقامتهم/ن، بالإضافة إلى شبكة علاقاتهم/ن، إلى آخره. بالنسبة لهم/ن، تصبح الحركية ردا على أيٍ من التحديات سواء في الظروف البنيوية والسياق السيريّ. على سبيل المثال، من قابلتهم/ن من العمال/العاملات المهاجرين/ات من وسط آسيا، والذين/اللواتي جاؤوا/ن إلى سانت بطرسبرغ للعيش وحيث مسارات حياتهم/ن التي تابعناها لمدة خمس سنواتسنوات يستند هذا المقال إلى المواد التي جمعت ضمن إطار مشروع "جوانب الهجرة الخارجية والداخلية". نفذ المشروع في الجامعة الأوروبية بمدينة سانت بطرسبرغ في ٢٠١٥- ٢٠١٩ بإشراف من س. أباشين وبتمويل من الصندوق العلمي الروسي.
، تعددت التحديات حرفياً خلال شهرين إلى أن قابلناهم/ن من جديد مثل: "اذهبوا/ن إلى منازلكم/ن أفضل لكم/ن" وذلك من أجل العودة السريعة، وتغيير مجال العمل، وتبديل الشريك الجندري إلى آخره. مترحّل كهذا يلاحظ مجموعة متلاحقة من المشاريع الحياتية، في حين يستثمر جهوده في كل السيناريوهات الممكنة مع توقّع أن ينجح واحد منها، بحيث يكون السيناريو مقبولاً ومجدياً. لنأخذ على سبيل المثال حالة رحمنبيك، الذي هاجر من طاجيكستان: حيث استثمر أمواله في بناء منزل في بلده، متوقعاً العودة إلى هناك، وتقدم بطلب للحصول على الجنسية الروسية بهدف البقاء في روسيا، وفي الوقت عينه، جمّع المعلومات بشأن هجرة محتملة إلى السويد. استراتيجياته ليست فريدة على الإطلاق: أغلب من قابلتهم/ن، تماما كما معظم زملائي/زميلاتي، يعيشون/ن بحالة تتعدد فيها مشاريعهم/ن الحياتية.
يتحرك المهاجرون/ن ضمن مسارات سيئة التنظيم، ويمكننا بدلاً من ذلك الكلام عن تنقلات بين مواقع متعددة، حيث يتوقفون/ن مؤقتاً.
يلاحظ الباحثون/ات حصول تغيّرات لافتة ضمن ظاهرة الهجرة نفسها. حاليا، الهجرة (الانتقال من مكان سكن إلى آخر) والهجرة من أجل العمل لم يعودا السيناريو المهيمن على الهجرة، لصالح أشكال أخرى من الهجرة باتت أوسع انتشاراً: على سبيل المثال، الهجرة المناخية، حيث يهاجر العاملون/ات على حسابهم/ن الخاص إلى بلاد دافئة خلال الشتاء، فضلا عن هجرة المتقاعدين/ات وذلك بهدف محافظتهم/ن على مستوى معيشتهم/ن السابقة خاصة إثر تضاؤل مدخولهم/ن، كذلك تغيير السياقات الوطنية، والإجازات السبعية الأكاديمية كممارسات لتوقف مؤقت من الروتين اليومي بهدف البحث عن إلهام خلاق. كما أن أسباب الهجرة تتغير؛ فهي لها عادة مزيج من المميزات أو ليست محددة على الإطلاق. وبالتالي، فإن الشباب الذين/اللواتي يأتون/ين بأعداد كبيرة من قيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان إلى المدن الروسية لكسب عيشهم/ن لا يحققون/ن فقط سيناريو العامل/ن الضيف/ة، الذي تُبنى في إطاره حياة المهاجرين/ات بأكملها انطلاقاً من نشاطهم/ن العملي، إنما يحققون/ن كذلك سيناريو المغامرة، لا يرتبط كثيراً بالرغبة بكسب المال، إنما لاكتساب انطباعات وخبرات أو دائرة علاقات جديدة. سأقتبس من مذكراتي البحثية:
"إنها أمسية رائعة وممتعة في دوشانبي. إنها مظلمة. حيث بإمكانك سماع صوت نافورة المياه، التي لم تنطفئ بعد طوال الليل. أجلس مع زميلي في المقهى بالهواء الطلق لمناقشة أحداث النهار. على طاولة مجاورة، تتكلم مجموعة صاخبة من الرجال، حيث لفتوا انتباهنا. إنهم يناقشون رحلات العمل إلى روسيا. يخبر أصغرهم، ومن الواضح أنه الأخبر فيهم، أصدقاءه بسرعة وتدفق: "اليوم في موسكو على تلال سبارو…" ويتوقف عن الكلام لبرهة من الزمن، ويحاول تذكر أو لإعادة صياغة كلامه بشكل أفضل لشرح ما يحصل على تلال سبارو. "ترقص النساء عاريات الصدور!" صوته يملؤه الفرح المخفي، والمتفاخر بمشاركته في تلك النشاطات، ولاستفزاز المجموعة. "تخيل، تتدفق الأموال كالأنهار، حيث لقضاء ليلة واحدة، ليلة واحدة فقط، عليك أن تدفع 8 آلاف روبل في نادٍ، حسناً ما هو هذا المبلغ بالنسبة إليهم؟! بالتأكيد يملكونه…" تنتهي قصته بندم: "اه، لو كان بإمكاني أن أكون في موسكو اليوم…" الحشود صامتة. وفي ذلك الصمت، يمكن الشعور باتحادهم: "يا ليتهم جميعهم في موسكو، سيكون ذلك رائعاً وشديد الجمال!"
(تموز/يوليو 2017)
الهجرات المعاصرة ليست عمليات انتقال واضحة من مكان إلى آخر. إذ لا يتبع الناس طرقاً ثابتة ومحددة ولا تحصل حركتهم/ن بين ما يسمى المجتمعات "المرسلة" وتلك "المتلقية"، حيث يبقون فيها لفترة طويلة. يتحرك المهاجرون/ن ضمن مسارات سيئة التنظيم، ويمكننا بدلاً من ذلك الكلام عن تنقلات بين مواقع متعددة، حيث يتوقفون/ن مؤقتاً.
لا ترتبط خصوصيات الهجرات المعاصرة بالهجرة المكانية فحسب، إنما بنوع خاص من التدفق الزمني للمهاجرين/ات وهو تدفق يمكن تسميته ب"الزمن الممتد". من ناحية، ينفذ المهاجر/ة مشاريع حياتية قصيرة الأمد وذات أهداف ملموسة، كالزواج وبناء منزل وتوفير التعلم لأولاده/ا. ومن ناحية أخرى، تتغير الأهداف، وتتشابك مع بعضها البعض، وينتهي الأمر بالهجرة على مدى طويل، على الرغم من الطابع القصير المدى لمشاريع الحياة تلك. يمكن أن تستمر هذه الحالة لسنوات أو حتى لعقود ولا تُعيَّن حدودها. بالإضافة إلى ذلك، يعيش المهاجرون/ات في "وقت آني"، وقد ناقش ناقش زيجمونت بومان، الحداثة السائلة، (كامبردج، سياسة، ٢٠٠٦)، ١٢٣- ١٢٩زيجمونت بومان هذا المفهوم. ترتبط السمة المميزة لهذا الوقت، من بين عدة أمور، بتركيزها على الوقت الحالي: حياة المهاجر/ة هي لحظة بمعنى أنها تتكشف في الحاضر، وهي عملياً ما بعد الماضي والمستقبل، حيث يؤخذون خارج حدود الواقع والآني للحياة. ينجرف الماضي بعيداً وبالكاد يرتبط بما يتكشف في الحاضر، في حين أن المستقبل ضبابي وغير واضح المعالم بسبب الطابع القصير المدى لمشاريع الحياة المخطَّط لها. يتم تحديد موقعه/ا خارج حدود الهجرة ويظهر عندما يحتمل أن تنتهي هذه الأخيرة. ومع ذلك، ليس للهجرة أي نهاية واضحة.
التحقيق في التغيرات بمكونات المنزل، وكذلك الممارسات والأحاسيس المتعلقة به، يقربنا من فهم التحولات الاجتماعية التي تتكشف في مجتمعاتنا
ما سبق هو مجرد بعض السياقات والمعايير المطلوبة لفهم خصوصيات منازل المهاجرين/ات: كيف بنيت، وما هي المعاني الاجتماعية والرمزية التي تنسب إليها. أود أن أدعي أن التحقيق في التغيرات بمكونات المنزل، وكذلك الممارسات والأحاسيس المتعلقة به، يقربنا من فهم التحولات الاجتماعية التي تتكشف في مجتمعاتنا. لذلك، على سبيل المثال، فإن اختفاء المخازن والمكاييل من منازلنا لا يشهد فقط -وليس كثيراً- على حقيقة أننا لم نعد بحاجة إلى تخزين المواد الغذائية أو التغيير السريع في البيئة المادية، ولكن أيضاً يدلّ على جوهر المجتمع الاستهلاكي الحديث. ومع ذلك، إن عمليات الشراء المخيفة للمواد الأساسية جعلت مسألة التخزين ملحة مرة أخرى، مما يشير إلى إعادة تشكيل المجتمع مؤقتاً من مجتمع مستهلك إلى مجتمع وبائي.
III
منزل المهاجر/ة هو في الأساس منزل مؤقت. إنه منزل لا يبنى فيه مستقبل ولا يوجد حاضر فيه. وقد أدت الحياة في "الوقت الآني" إلى ظهور العديد من الأشكال الجديدة للمنازل، من بينها العديد من النُزُل، والمنازل المتنقلة، ومساحات السكن المشترك، وسوى ذلك. وعلى الرغم من أن منازل المهاجرين/ات عادة ما تكون مستأجرةً، إلا أن هذه الأشكال الجديدة موجودة ومشتركة داخله.
إنه منزل خالٍ من الأشياء. فالمترحّل يبقى كذلك: لا يمكنهم/ن السماح لأنفسهم/ن بمراكمة الأغراض، ولا يستقرون/ن ولا يتجذرون/ن. في أي لحظة، كلما تغيرت الظروف الخارجية أو تبدل وضعهم/ن الشخصي، يبقون/ين مستعدين/ات لطي حياتهم/ن بأكملها في حقيبة والمضي قدماً:
بكل لطف دعتني غولنارا إلى منزلها. حيث تستأجر شقة مشتركة كبيرة مع مجموعة من المهاجرين/ات، تماماً كغولنارا. يعطي المكان انطباعاً مذهلاً. الغرفة خالية وبدون ملامح، وبالتالي تبدو غير مأهولة. عملياً لا أثر للحياة فيها. لا شيء يتكدّس في الزاوية، ولا شيء ينتظر ساعة الترتيب والفرز. لا توجد أكوام مرتبة من الملابس أو الصحون. لا توجد تفاهات لطيفة نجمعها طوال حياتنا- مثل هدايا تذكارية من الرحلات والهدايا السخيفة، والعديمة الجدوى التي نتلقاها عادة في أعياد ميلادنا- ولسبب ما، نحتفظ بصور الأقارب والصور على الجدران. لا شيء. وسط هذا الفراغ، يبدو الكوب وفرشاة أسنان بداخله غريباً نوعاً ما. فرشاة الأسنان هذه تشبه شجيرة على كوكب بعيد، تعد بالحياة في فيلم خيال علمي. أو بالأحرى، هي ظل من الحياة. ومن يدري إذا كانت ستنجو! تبدو الغرفة كئيبة وحزينة. الآن فهمت غولنارا، التي رفضت منذ فترة بعيدة دعوتي وأخبرتني أنها حقاً لا تحب أن تكون في منزلها. مقتنياتها الشخصية القليلة موضبة في كيس. حياتها كلها، شخصيتها، التي كان بإمكاني قراءتها من خلال غرفتها، كلها مطوية ومخفية. أو بالأحرى، على ما أعتقد، ليست مخفية، إنما غير مكشوفة، وغير مدمجة في هذا المكان. هذه ليست غرفة غولنارا، إنها مجرد غرفة.
(مقتطف من مذكراتي البحثية، شتاء 2016)
ترتبط خصوصيات منزل المهاجرين/ات بتنظيم الحياة المنزلية. إن السكن المؤقت يخلو عملياً من تلك الحياة اليومية التي تخلق منزلاً، فهم/ن ليسوا/ن مهتمين/ات بتجهيز المنزل وتأثيثه. في فضاء غريب، يسكنه عدة أشخاص، يدمج المرء في وضع خاص للاهتمام بالمنزل. في هذا الوضع، تكون ممارسات الاهتمام محددة ومحدودة: هناك قائمة معينة للتنظيف، ولا يمكن للمرء دائما الطهي عندما يريد ذلك. عندما يعيش الإنسان في مكان مستأجر، قد يُمنع من تزيين المنزل، وبالتالي جعله ملكاً له، أو قد لا يرغب بذلك بكل بساطة. ومع ذلك، لا أعتقد أن أحداً يخسر منزله في ظل عدم وجود حياة منزلية عادية معينة، بل إن المنزل يغير أشكاله ومحتواه التقليدي. المنزل الآن مؤقت ومتحرك، ويمكن تعبئته بسرعة وتغييره..
منزل المهاجر/ة ليس مكاناً يعود المء إليه ولكنه مكان يغادره. الجزء الأكبر من نشاط المهاجر/ة وحياته تحصل خارج حدود المنزل.
منزل المهاجر/ة هو مكان مشترك، يعيش فيه العديد من الناس في وقت واحد. إن اكتظاظ هذه المنازل ينبع من دون شك من الرغبة بتخفيف المصاريف. المهاجر/ة الذي ينتقل إلى مكان إقامة جديد لكسب عيشه يقلل من مصاريفه، وبالتالي يرسل المال إلى عائلته في وطنه أو يتخلى عنها في وقت لاحق، إلى جانب مصاريف حياته بأكملها. من الصعب الحصول على بعض الخصوصية في مثل هذا المنزل الجماعي، حيث تتقلص المساحة الخاصة بالفرد إلى تلك المخصصة لنومه/ا. بالإضافة إلى ذلك، حتى تلك المساحة لا تكون ملكاً له/ا بالكامل. أخبرني أبرور، وهو مهاجر من أوزبكستان، الذي كان يعيش في سانت بطرسبرغ منذ 6 أشهر عندما أجريت الدراسة، إنه لا يشعر تقريبا "بوجود منزل له"، فالبيت الذي يسكن فيه استأجره مع ثمانية مهاجرين/ات آخرين/ات من وسط آسيا. لديه "مكانه الخاص" على الأرض حيث ينام في الليل، أما خلال النهار، حين يعمل أبرور، يحل مكانه رجل من طاجيكستان يعمل خلال الليل. ويبدو أنهما لم يلتقيا حتى مع بعضهما البعض.
لا يصبح منزل المهاجرين/ات مكان إقامة عائلة واحدة. يمكن بناء الروابط الاجتماعية التي تجمع أولئك الذين/اللواتي يعيشون/ن في منزل المهاجرين/ات على أسس جدّ متفاوتة، وتكون مدهشة وفي الوقت عينه مفهومة للغاية:
غولنارا من أوزبكستان، وهي أرملة. لديها ثلاثة أولاد بالغين، بقوا في بلدهم، وهم من العاطلين عن العمل. غولنارا في أوائل الخمسينيات من عمرها. وهي غير مرتاحة إلى حد ما مع سنها ومع واقع أنها عاملة مهاجرة في عائلتها، وليس أولادها. غرفة غولنارا طويلة وضيقة، عرضها 1،5 م. إلى مترين وطولها 5 أمتار. تحتوي على سريرين قابلين للطي، وحقيبتين كبيرتين زيتيتين، من النوع الذي كان سائدا لتجار السيارات في روسيا خلال الـ 1990ات. السرير الثاني القابل للطي لشاب من طاجيكستان. قالت غولنارا بأنها شعرت بالأسف تجاهه: "لا يستطيع العيش مع أخيه الأكبر، فلأخيه عائلة. لذلك هو يعيش معي، فهو بالنسبة لي كالابن…" مشاركة المنزل مع شخص آخر عادة تكون محاولة للتغلب على الوحدة التي تتحدث عنها غولنارا كثيراً. إن الحاجة إلى رعاية شخص ما، تتماشى مع الاعتبارات المنطقية، فاستئجار غرفة مع شخص آخر أرخص مرتين.
(مذكراتي البحثية- شتاء 2016)
يُستأجر منزل المهاجرين/ات ليس فقط من الناحية المكانية، إنما كذلك من الناحية الوظيفية. عندما سئل عما يقوم به في منزله، أجاب أبرور، أنه يعود من العمل، ويستحم ويأكل العشاء، وينام. قبل النوم، يتصل عبر الهاتف بعائلته، ويستخدم وسائل التواصل الاجتماعي للحديث مع أصدقائه/صديقاته، الذين/اللواتي هم/ن أيضا من العمال/العاملات المهاجرين/ات، بالإضافة إلى مشاهدة الأفلام. في الصباح، يغادر أبرور منزله دون تناول وجبة الفطر، بسبب وجود العديد من الأشخاص داخل المطبخ، بحسب قوله. وبذلك، فإن منزل المهاجرين/ات ليس مكاناً يعود إليه الإنسان، إنما هو مكان يغادره. ويتمظهر الجزء الأكبر من نشاط المهاجر/ة وحياته/ا خارج جدران المنزل- سواء كان يقضي وقتاً في العمل، أو يمشي في المدينة بحثاً عن تجارب جديدة، أو يتصفح الانترنت على هاتفه/ا، وينأى بنفسه/ا عن العالم الخارجي.

مؤسسة سميثسونيان.
IV
كتب ألفرد شوتز أن الجنود العائدين من الحرب لا يعودون أبداً فعلياً منها. فتجارب الحياة الفريدة التي راكموها في الحرب تبقى معهم، وتقطع عن الجنود السابقين حياتهم الماضية، ولا تسمح لهم بالعودة إلى بلادهم. أعتقد أنه في هذه الحالة يمكن ربط الهجرة بالمشاركة في العمل العسكري، على الرغم من أنني آمل ألا تكون تجارب الهجرة مليئة بالرضوض. ومع ذلك، فإن الانطباعات التي تعطيها الأماكن الجديدة، والسياقات الثقافية المختلفة، والنوع المختلف للحياة اليومية، كل ذلك يجبرك على إلقاء نظرة جديدة على حياتك وإعادة تحديد مكانك فيها. الانسحاب المؤقت من الحياة المنزلية يسبب نوعاً من الاغتراب تجاهه. برأيي، يمكن للملاحظة التالية من مذكراتي البحثية التي أنجزتها في صيف 2017 في دوشانبي، أن توضح هذه الفرضية:
عادت نيغورا إلى بلادها في طاجيكستان. اعتبرت ذلك أمراً مؤسفاً إلى حد ما، كان ممتعاً جداً أن نلتقي بين حين وآخر في سانت بطرسبرغ والتحدث في كل المواضيع. الآن نحن نلتقي في دوشانبي. بالكاد استطعت التعرف إليها. في سانت بطرسبرغ، كانت نيغورا ترتدي ملابس بسيطة للغاية، تكاد تكون خفرة. وحده حجابها كان الشيء الوحيد الذي يلفت أحياناً انتباه المارة. أما الآن فهي ترتدي ألواناً زاهية، وتضع كذلك مكياجاً لامعاً. ومع ذلك، بهذا الشكل، تبدو الطريقة متناسبة ومتناغمة إلى حدٍ ما، وحتى غير مرئية، مع الخلفية العامة لحشد الألوان الزاهية بين السكان. أنا سعيدة لمقابلتك وتبادل الأخبار معك، تقول نيغورا: "أعمل في صالون لتزيين الشعر من التاسعة صباحاً إلى التاسعة مساءً. أحصل على إجازة ليوم واحد في الشهر. استأجرت غرفة مع فتاتين أخريين. يعيش الأطفال مع أهل زوجي السابق." لقد سمعت هذه القصة بالذات قبل بضعة أشهر. بنفس الكلمات أخبرتني نيغورا عن حياتها في سانت بطرسبرغ. ويبدو لي أن نيغورا لم تَعُد أبداً. وهي اليوم تنال أجراً أقل من السابق وتخضع لرقابة عائلتها بشكل أكبر. أخبرتني نيغورا أنها مرضت طويلاً عندما عادت وأنها تريد العودة إلى روسيا. تقول إن الحياة في الهجرة قد غيّرتها كثيراً ولن ترجع كما كانت أبداً. وعلى الرغم من عودة نيغورا، لا أعلم إذا كان بإمكانها العودة بشكل فعلي.
(حزيران/يونيو 2017)
ومع ذلك، فإن تجارب الحياة الجديدة ونماذج السلوك ليست العوامل الوحيدة التي تساهم في الاغتراب عن ذلك المنزل الذي "بقي في المنزل". اتضح أن الانسحاب من الحياة الاعتيادية والحياة اليومية يجعل موطن المرء غريباً أيضاً. أخبرني العديد ممن قابلتهم/ن أن السفر إلى الوطن لقضاء إجازة لا يحقق السعادة، ليس سهلاً على المرء أن يتكيف مع وتيرة الحياة السابقة، فضلاً عن الانغماس في الأمور المنزلية المنسية، بالإضافة إلى إعادة بناء العلاقات مع أفراد الأسرة. تحدثت زوجة واحد ممن قابلتهم نفس الأمر، بعد أن بقيت في منزلها في طاجيكستان: "تراكمت الأشياء عندما كان [زوجها] مسافراً، لكنه جاء لبضعة أسابيع فقط، لا يريد حتى تغيير المصباح الكهربائي، كما لو أنه ليس في المنزل إطلاقاً…، وأضافت مستاءة من الإحباط: "أتمنى أن يغادر خلال وقت قصير، فالحياة هنا اعتيادية أكثر من دونه!"
تربط وسائل الاتصال الحديثة المساحات وتسمح للمهاجرين/ات ليس فقط بالبقاء على اتصال مع الأقارب، إنما العيش حرفياً معهم في نفس الوقت. لقد فوجئت عندما علمت أن اتصال المهاجر بمنزله ومحادثاته مع أقاربه في بلده تتمحور حول الحياة المنزلية اليومية. واستمعت بالصدفة إلى مكالمة هاتفية بين مهاجر من طاجيكستان- صديق مقرب لي- وزوجته. سأل رحمنبيك زوجته الشابة بالتفصيل الدقيق عما اشترته من المتجر في ذلك اليوم وما إذا كانت قد كنست الشرفة. كما اتضح، فإن مثل هذه المحادثات شائعة جدا وتمثل محاولة من بات بعيداً إعادة الانخراط في حياة عائلته. تخلق هذه المحادثات وهماً بأنك في منزلك، وأنك جزء منه. ومع ذلك، أفترض أن لهذه المحادثات خصائصها الفريدة بها، فيما يتعلق باختيار المعلومات وتصرفات المشاركين/ات. يبدو في هذه الحالة أن الاغتراب وإعادة تعريف المنزل لا بد منه، حيث من الصعب أو من المستحيل تماماً العودة إليه. المنزل الذي "بقي في المنزل"، تماماً كالمنزل في بلد الهجرة، يصبح مكاناً تتركه، وليس مكاناً تعود إليه
V
قد يبدو أن المنزل يختفي فعلياً بالنسبة إلى المترحلين/ات المعاصرين/ات. لاحظت أنه في وصف منزل المهاجر في بحثي، قمت بصياغة العديد من الأشياء بشكل سلبي، باستخدام النفي، ونكران بعض الخصائص الأساسية، وجَعل النفي مواجهاً فعلياً لمنزل شخص مستقر. من الواضح أن هذا يحصل خلال تشكُّل ظاهرة، عندما تتبلور لأول مرة دون أن يكون لها اسم ولغة تصفها. ومع ذلك، أحب أن تُنتَج صياغة إيجابية لمنزل المهاجر، أي بحيث تتوافق بشكل أفضل مع الطريقة التي يلاحظه بها سكانه. أود وصفه بالضوء. إنه ليس مجرد منزل مهجور (من دون العودة إليه)، إنه ليس مجرد منزل يمكن جمعه وتوضيبه داخل حقيبة يحملها المرء. لا يزال المنزل موجوداً، لكنه بشكل مذهل يخلو من المادية. لا يرفض المترحلون/ات الجدد الوطن، فهو موجود في نظرتهم/ن إلى العالم، ولكنه في وضع غير مادي.
المنزل حاضر في المخيلة، في مشاريع المستقبل، لكن موقعه في الزمان والمكان غير معروف، وهو بدلاً من ذلك حالة السلام المشتهاة
لذلك، على سبيل المثال، يدخل المنزل الصورة في كل محادثة عن المستقبل. هنا ينبغي ملاحظة أن التحدث مع من قابلتهم/ن في بحثي عن المستقبل كان صعباً إلى حد ما. في هذه اللحظات، أصبح الطابع المعاصر لمشاريع الحياة قصير المدى بشكل واضح: لا يعرف الناس ما سيحل بهم في المستقبل ولا يحاولون/ن وضع خطط طويلة الأمد. ومع ذلك، لهم أحلامهم/ن المستقبلية المتشابهة، وهو أمر غير مفاجئ. يربط المهاجرون/ات مستقبلهم/ن بنهاية الحركة، تبدأ حيث تنتهي الهجرة. ومع ذلك، إن هذا المستقبل لا يخلو فقط من الأبعاد الزمنية والمكانية. فمن قابلتهم/ن في بحثي تجنبوا/ن الأسئلة حول المكان الذي يعيشون/ن فيه بالضبط- فقد أصبح المستقبل غير معروف المكان ("حسناً… لا أعرف أين سأكون… أين سأصل؟ ربما هنا [في روسيا]، أو في طاجيكستان، ربما في مكان آخر، من يعلم؟!" بورخون، 37 سنة من طاجيكستان). ولكن في المستقبل، سيكون هناك منزل دائماً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعائلة ويرمز إلى السلام والازدهار: "في المستقبل؟ [توقف لبرهة] أود منزلاً لي. أجلس فيه، يحيط بي أحفادي. وأن يكون كل شيء على ما يرام…" زيبونيسو، 28 سنة، مهاجر من طاجيكستان). وبالتالي، فإن المنزل حاضر في المخيلة، في مشاريع المستقبل، لكن موقعه في الزمان والمكان غير معروف، وهو بدلاً من ذلك حالة السلام المشتهاة.
في الوقت الراهن، يُختصر المنزل بعدد من التفاصيل المعبِّرة. بالنسبة للبعض، إنه صور عائلية على الهواتف الذكية، بالنسبة للبعض الآخر، غرض أحضروه معهم إلى بلاد المهجر وأصبح مع مرور الوقت مشبعاً بالمعنى الرمزي الهائل. في كثير من الأحيان، لا ترتبط الأشياء أو الصور بالمنزل، ولكن تنشأ قصة عن المنزل من حولهم/ن. على سبيل المثال، قضى أبرور، المهاجر البالغ عمره 20 عاماً من أوزبكستان، وقتاً طويلا يعرض لي صوراً للخيول التي نزّلها من الانترنت على هاتفه، وأخبرني كيفية كسب ما يكفي من المال، حتى "يربي الخيول في موطنه." مثال آخر عن تخيل المنزل ورمزيته هو حالة وردت موضوع دراسة لزميلي الذي التقى مهاجرين/ات من دول البلطيق في بريطانيا. يعيش جميع أفراد الأسرة في أماكن مختلفة ولا يجتمعون أكثر من مرة في السنة، في الوقت عينه اعتبروا/ن المكان الذي يعيش كلبهم فيه في الوقت الحالي منزلهم/ن. والمثير للدهشة أن الكلب لم يجمع العائلة فحسب، بل كان بمثابة رمزا للمنزل، وأصبح الملاذ الذي أقامه المترحلون/ات.
VI
أصبح الوباء والحياة اليومية والعزلة الذاتية تحديات للجميع من دون شك. لا تكمن المشكلة فقط في حقيقة أن الإيجار بات عبئاً مالياً لا يحتمل عندما لا يتوفر العمل، وليس كذلك في الفضاء الاجتماعي المتجمد لمنزل مكتظ بالسكان، حيث يعيش العمال/العاملات المهاجرون/ات من آسيا الوسطى على هذا النحو طوال الوقت تقريباً. لقد أجبر المترحلون/ات المعاصرون/ات على التوقف، في حين أن الانقطاع عن الحركة، سواء كان حقيقياً أو محتملاً، هو بالنسبة إليهم/ن أصعب من أي شيء آخر، فضلاً عن اتخاذ قرار بشأن مكان انتظار انتهاء الوباء. خاصة، أن السياقات والمقاييس الوطنية وثيقة الصلة بالموضوع. واجه من قابلتهم/ن أسئلة مثل: هل يجب البقاء في روسيا أو العودة إلى وسط آسيا؟ هذا السؤال ليس مركزياً ولا يتعلق فقط بالمكان الأكثر أماناً، ولكنه السؤال الذي يتعلق بالمكان المناسب والمقبول. وهكذا، أجبر الوضع المهاجرين/ات على تحديد منزلهم/ن. بالنسبة إليهم/ن، توقف المنزل فجأة عن أن يكون مكاناً تغادره أو مكاناً تعود إليه، وبدلاً من ذلك أصبح مكاناً تتوقف وتبقى فيه لفترة من الوقت. ضمن سيرورة تشكّل هذا المنزل- المساحة الخاصة- أصبح دور الحكومة الوطنية، التي تحمي وتتحكّم بالفرد أثناء الوباء، واضحاً. من الصعب تحديد ما سيحدث بعد ذلك وكيف سيتغير مفهوم المنزل. في الحالتين، من الواضح أن حركيتهم/ن مرنة للغاية: يمكن للمرء أن يرى كيف أن الشكل الاجتماعي الذي يبدو مستقراً، إن لم يكن تقليدياً إلى حد ما مثل المنزل، يستجيب بشكل تفاعلي لجميع التحديات الخارجية. ومع ذلك، فإن حياة المترحلين/ات المعاصرين/ات الذين/اللواتي هم/ن الأكثر إثارة للإشكاليات والتشكيكات في مفهوم المنزل، فضلاً عن إعادة تشكيله وتعدد معانيه.
ترجمه من الإنجليزية وليد ضو.

