(إإ)
EN / RU

مقاطعة: بين واقع الصوت وخيال الحدود

مقابلة مع موسيقي فلسطيني

غلاف ألبومي مقاطعة: حيوان ناطق (2013) ولا لسان له (2017)

تحدث الفنان والمنتج الفلسطيني مقاطعة مع المنسّق الموسيقي والدي جاي نيكيتا راسكازوف عن جذوره الموسيقية، وكيفية تشكّل الصوت من خلال السياق السياسي، وإمكانية مواجهة الاحتلال الجسدي والعقلي. المؤسس الشريك لمجموعة رام الله اندرغراوند الموسيقية والمقيم بين برلين وفلسطين يشاركنا رؤيته وأسلوبه اللذين يقفان وراء إصداره الأخير كامل منقوص، متحدثاً كذلك عن الطبيعة المتغيرة باستمرار للحدود بالنسبة للفلسطينيين/ات.

نيكيتا راسكازوف: مبروك إصدارك الأخير! قبل الوباء بقليل، انتقلتَ من فلسطين إلى برلين ليسهل عليك القيام بجولات موسيقية. هل هي المرة الأولى التي تسافر فيها إلى الخارج وكيف تغير شعورك تجاه وطنك بعد أن غادرته؟

مقاطعة: لا، ليست المرة الأولى التي أغادر فيها فلسطين. فقد عشت، بداية، في قبرص لمدة 10 سنوات، وبعد ذلك، درست الموسيقى في الولايات المتحدة، على الرغم من أنني لم أكمل دراستي هناك إذ غادرتها بعد مضي سنة ونصف السنة. ولكي أكون صادقاً، أشعر أنني ما زلت في وطني في أي مكان أزوره- حتى عندما أعيش في رام الله، أصنف كلاجئ داخلي. ودائماً ما أشعر أنني لا أنتمي إلى مكان محدد.

وبما أنني كنت في برلين، كان التنقل صعباً للغاية في جميع أنحاء المدينة، فضلاً عن التلاقي وفتح أبواب جديدة. لذا، إلى حد ما، لم أنتقل بعد إلى برلين، لأنني ما زلت أعمل ضمن نفس الوسط الاجتماعي كما كنت أفعل، والذي أحبه، ولكن أحد أسباب قدومي إلى هنا هو أيضاً بهدف مقابلة فنانين/ات جدد/جديدات.

ن.ر.: إذا أردنا التحدث عن العزلة، لقد ذكرت أنك بدأت بصناعة الموسيقى خلال حظر التجول الذي فرض عليكم في أوائل الـ2000ات، فكيف حدث كل ذلك؟

م: بالفعل، حاولت تأليف الموسيقى قبل ذلك، ولكن عام 2002 فرض حظر تجول طويل علينا- إذ لم يسمح لأي فلسطيني/ة بمغادرة منزله/ا. كانت تجربة مرعبة، حيث انتشرت الدبابات في كل مكان، وأصيب الناس بالرصاص، واعتقل جيراني، وكل شيء كان يحصل تحت نافذتي. فبدأت بالتأليف حين أجبرت على البقاء في المنزل وكنت بحاجة إلى شيء ما للخروج من الوضع الذي كنت فيه. اليوم، أنظر إلى تلك السنوات، وألاحظ أنه لدي هذا الاستعجال للخروج، وخلق شيء أعبر بواسطته عما أشعر به. في ذلك الوقت، سجلت أول عمل بدون معدات مختصة بالتسجيل، استعنت بميكرفون سماعاتي. بعد فترة بدأت مجموعتنا، رام الله أندرغراوند، والتي كانت صاخبة ومستجيبة بطريقة حقيقية ومباشرة للوضع. فكان ذلك علاجي وطريقتي للشفاء. واستمرت هذه الطريقة- الحاجة الدائمة إلى تأليف الموسيقى. إذا لم أؤلف موسيقى خلال بضعة أيام، أشعر بأنني لست على ما يرام.

ن.ر.: انطلاقاً من ذلك، من الواضح أن صوتك يحمل هذا الطابع الصناعي المميز بإيقاعات وصفات خشنة. ولكن لماذا تبنيت أسلوب الهيب هوب في البداية؟ هل كانت مشهورة في بداية الـ 2000ات؟

م: في التسعينيات، كانت الطريقة الوحيدة بالنسبة لنا للاستماع إلى الموسيقى الجديدة هي من خلال الأشخاص الذين/اللواتي يسافرون/ن ويرجعون/ن إلى فلسطين، فكان الأصدقاء/يقات يحضرون/ن الكاسيتات والسي ديات فيما بعد. كان أخي الكبير يحب الهيب هوب والبانك كثيراً، لذا كنا نستمع إلى نفس الموسيقى. وشعرت أن الهيب هوب يعنيني حتى من دون أن أفهم كلمات الأغاني. فمن خلال أسلوبها العدائي وصوتها الاحتجاجي، شعرت أنها حقيقية إلى هذا الحد أو ذاك. لذا عندما بدأت في صناعة الموسيقى لأول مرة كان هذا الصوت الذي حاولت إعادة خلقه. اليوم، لا أؤدي الصوت بوعي، ولكن كلما أؤلف أغنية جديدة يصدر الصوت بكل تلقائية.


أول عمل منفرد لمقاطعة بعد رام الله أندرغراوند


ن.ر.: طوال أعمالك الموسيقية، يبدو أن تطور الوسط الفني كان عملية حيوية، فهل تجد صعوبة في الحفاظ على ذلك عندما ينتشر هذا الوسط في جميع أنحاء العالم؟

م: في الواقع، أنا أعيش بين برلين ورام الله، ولا زال العديد من أصدقائي/صديقاتي هناك، لهذا السبب قضيت الكثير من الوقت هنا في برلين بسبب الكوفيد. ولكن مخططي يقضي بالاستمرار في العيش بين الأماكن، والعيش  بفلسطين في أغلب أيام حياتي. نحن مشتتون جغرافياً هناك، بسبب جدار الفصل العنصري وحواجز التفتيش. لا يسمح للفلسطينيين/ات من مدن مختلفة بالتنقل من مكان إلى آخر. لذلك أنشأنا طرقاً للتعاون عبر الإنترنت دون أن نكون في مكان واحد. فقد تطبّع الفنانون/ات الفلسطينيون/ات مع هذا الوضع.


ن.ر.: هل تتأثر بفكرة "الحدود"، إذ لطالما كان الفلسطينيون/ات عرضة للمخاطر؟

م.: بصراحة، بالنسبة لي، وللعديد من الفلسطينيين/ات، الفكرة بحد ذاتها معوِّقة ومؤقتة تماماً. لم يكن يوماً لنا أي حدود واضحة، فلطالما كانت متحركة وتشكّل ذاكرة كاملة للمكان كان شبه مستحيل. اليوم ترى المدينة كما هي، ولكن بعد 10 سنوات فستكون مختلفة تماماً. قد يستولوا عليها أو يبنوا عليها مستوطنة إسرائيلية. ما يحصل هو تلاعب بفكرتك عن المساحات الخاصة والعامة التي تتغير باستمرار. بالنسبة لي، من الصعب أن أقوم بأي نوع من الصلات مع المكان الذي أعيش فيه. ولأنني لا أؤمن بالحدود، أشعر بأنني في الواقع أقاتل، وأقاوم وأطالب بالسيادة لأن كل هذا يعادل حصولي على حدودي الخاصة التي انتُزِعت مني.


ن.ر.: كيف يختلف الوضع في فلسطين عن ذلك في روسيا، حيث يقنع الأقاربُ الفنانين/ات، في أغلب الأحوال وبطريقة غير مباشرة، بمغادرة البلاد أو يجبرون/ن على ذلك؟

م.: لا تملك الحكومة الفلسطينية هذه السلطة على الناس، فهي ضعيفة للغاية، ولكن تزداد قواها الأمنية تجبراً بسبب التدريبات التي تجريها عند الجيش الأميركي وسواه من القوى الخارجية. لكنها لا تركز على الفنانين/ات- فالسلطات الإسرائيلية هي التي تعتقل الفنانين/ات والصحافيين/ات وسواهم/ن من الذين/اللواتي يناضلون/ن من أجل التغيير.


ن.ر.: كيف ترى العلاقة بين التعبير السياسي اللفظي وغير اللفظي في أغانيك؟

م: لن أقول أن الجزء الموسيقي هو أقل تسييساً من الجانب اللفظي من أعمالي، لكنه أكثر انفتاحاً على التأويل. أحاول تقديم بعض الأفكار والحفاظ على هويتي من خلال الأصوات التي أصادفها، مثل تسجيلاتي للأصوات عند حواجز التفتيش بين الحدود الفلسطينية والآليات العسكرية. فكل الأصوات حربية، وهي أشبه بحرب أصوات تشن علينا. على سبيل المثال، يستعمل الجيش الإسرائيلي طائراته الحربية من نوع الـ ف-16 للتسبب بالجدار الصوتي الناتج عن تجاوز الطائرات سرعة الصوت. هذه الأفعال هي جزء من حربهم النفسية علينا، من خلال استخدام الصوت ضدنا. الصوت الذي يسبب الخوف والتوتر والرضات النفسية خاصة لأنهم ينتجونه دون الحاجة لذلك. بالنسبة لي، من الضروري الرد عليهم، سواء عبر تسجيل عينات منها ومعالجتها فنياً، أو عبر طرق أخرى، مثل أسماء الأغنيات، خاصة في ألبومي الجديد.



أغنية دراسات عليا من الألبوم الأخير- كامل منقوص

ن.ر.: ذكرت أن أغنية قبور ماميلا من ألبوم كامل منقوص، تشير إلى مكان مهم في القدس، ما هي القصة وراءها؟

م.: إنها مقبرة ماميلا، وهي مقبرة قديمة دفن فيها من قاتلوا إلى جانب صلاح الدينصلاح الدينحاكم مسلم خلال القرن الثاني عشر قاد الحملة العسكرية ضد الصليبيين في بلاد الشام . وهذا يعني الكثير لتاريخ المدينة، ولكن إسرائيل دمرت كل القبور وبنت فوقها مركزاً للتسوق، ومن المفارقات أنها أنشأت كذلك متحفاً للتسامح. يتمحور الألبوم حول التواصل مع الأجداد. مثال آخر أغنية سيمياء التي هي مجموعة من الطقوس والعلوم المنسية- كالخيمياء.

فالسيمياء تستخدم الأرقام والحروف للتواصل مع العالم الروحي، كل ما هو خارج العالم المادي. ولكن البعض يصفها بطريقة سلبية حيث يعدونها طريقة لبلوغ الخلود، أو لاكتساب معرفة أكثر من الأشخاص العاديين من خلال التواصل مع الأرواح. وكانت السيمياء تعد بمثابة سحر، وفي النهاية حظرتها الخلافة الإسلامية. أشعر أن الموسيقى تعمل كثيرا بنفس الطريقة.


مقاطعة- كامل منقوص (2021)

ن.ر.: ما هو الوضع مع الموسيقى المحلية للقرن العشرين، هل من محاولات للمحافظة عليها؟

م.: صديقي وأنا بدأنا بالأرشفة طيلة 8 سنوات وتوقفنا خلال العامين المنصرمين. إذ كنا نحول الأغاني، التي نجدها، إلى رقمية ونؤرشفها وننشرها في مدونة أسبوعية، لأننا وجدنا ذلك أمرا ملحا وذلك خشية أن تضيع كل تلك الموسيقى. كما هناك مجموعة من الناس المثيرة للاهتمام في رام الله تعمل تحت اسم نوى التي تحاول أن تحفظ الموسيقى والفنون الفلسطينية القديمة، فضلاً عن أوراق النوتات والتسجيلات القديمة، كما تدعو موسيقيين/ات معاصرين/ات لأداء تلك القطع الموسيقية بالإضافة إلى إعادة تسجيلها. ولكن ما هو مهم، أن تكون فلسطينياً/ة تعني أيضا أن تكون جزءاً من كل المنطقة مثل: سوريا ولبنان والعراق ومصر واليمن. لا يمكن أن تكون منعزلاً/ة، ليست ثقافة محصورة بفلسطين، فكل شيء مترابط ويكوّن مشهداً واحداً واسعاً.

ن.ر.: مع ازدياد شهرتك، هل تشعر بالضغط والمسؤولية لتمثيل الموسيقى الفلسطينية المعاصرة؟

م.: إنه أمر أفكر به كثيراً. لا أعتقد أنني أمثل الجميع أو حتى نفسي. أنا فقط أقوم بما أعده صحيحاً. عندما يكتب أحدهم عني أشعر بأنني في هذا الموقف. ليس هدفي هو أن أمثل، إنما أن أكون على صلة مع الجميع، أن أطرح الأسئلة، وأثير النقاش. كما أود أن أحفز التفكير بالأشياء بطرق جديدة والاستمرار جدياً بالتركيز على الأشياء المهمة، وعدم الضياع في هذا العالم الجديد الذي نعيش فيه خلف الشاشات، هذا ما أؤمن به وأعمل من أجله. ولكن من الصعب الحفاظ على الأشياء ثابتة وبشكل دائم وهذا ما يعكس أيضاً واقعي وحياتي في فلسطين حيث لا يوجد شيء ثابت وواضح. أنت تقود سيارتك باتجاه ما سيصادفك حاجز، تحاول تأليف الموسيقى فتنقطع الكهرباء. هناك دائماً ما ينتهك استمرارية واقعي والذي أحاول أن أعبر عنه بواسطة الصوت.