جون كيتازاوا فنان من مواليد طوكيو، يعيش حاليا في مدينة يوجياكارتا- إندونيسيا. يعمل في مشاريعه مع مجتمعات متعددة لإنشاء مساحات "غير خاصة وغير عامة"، لإدخال الإحساس بالخفة في الظروف الحرجة، ومن أجل استكشاف إمكانيات الحياة اليومية والطرق المختلفة للتدبير المنزلي. يخبر جون مجلة إيست إيست عن مبادراته في اليابان وإندونيسيا بالإضافة إلى ما تعلمه في بلاده.
أنا من اليابان، لكنني أعيش اليوم في إندونيسيا. عملت في اليابان لمدة 10 سنوات تقريباً، مع المجتمعات المحلية في جميع أنحاء البلاد، في كل من الأرياف والمدن، خاصة لأن أعمالي تقوم على التعاون مع أشخاص آخرين. لكن مؤخرا، وصلت بعض المشاريع الطويلة الأمد مع السكان المحليين إلى نهايتها المنطقية، على سبيل المثال، المشروع الذي عملت به مع الأشخاص الذين/اللواتي يعيشون/ن في منطقة الكارثة النووية في فوكوشيما دايتشي، على بعد حوالي 50 إلى 60 كلم من المحطة النووية. تضررت المنطقة بسبب كارثة التسونامي أكثر من تضررها من الانفجار النووي، حيث اختفت قرى بأكملها تحت الأمواج. السكان الذين/اللواتي عملت معهم/ن في اليابان كانوا/ن يعيشون/ن في القرى المطلة على البحر والتي دمرها التسونامي. بعد أربع سنوات، حصلوا/ن على منازل جديدة، وقد تغيّروا/ن تماماً مثلي. طوال أربع سنوات، عاشوا/ن في منازل مؤقتة، ولكن بعد أن تغيّر وضعهم/ن عام 2015 وصلت في الوقت عينه إلى نهاية مشروعي معهم/ن أيضاً. كنت أسعى إلى التغيير كفنان أيضاً.
عندما انتقلت إلى جاكرتا، شعرت بصدمة شديدة، إذ أصبت بصدمة ثقافية حقيقية. لقد ولدت في طوكيو، والسبب الذي جعلني فناناً يرتبط بحياتي في تلك المدينة. عندما كنت طالباً في الثانوية، كان التواصل مع الآخرين/ات يربكني دائماً. في سنوات مراهقتي، عندما كنت أتحدث مع الآخرين/ات، كنت أفكر دائماً، لماذا أتحدث عن ذلك؟ لماذا أعرف ما أعرفه؟ وللتعبير عن نفسي، كنت دائما مدركاً بشأن ما أنقله. وأصبح هذا الأمر هو تفكيري الفني. ولكنني ما زلتُ أتساءل من أين تأتي الطريقة التي أعبّر بها عن نفسي. لماذا يمكنني التعبير عن هذا الأمر أو ذاك، ولماذا يمكنني استخدام اللغة التي أتواصل عبرها، وما هي هوية تعبيري؟ كان هذا الأمر سؤالاً مهماً بالنسبة لي. كان جوابي هو أن أصبح فناناً. في حياتي اليومية، كنت دائم الابتكار. عندما أرسلني أهلي إلى المدرسة، لعبت دور الطالب، حيث دوماً نلعب دور شخص ما في المجتمع.
هذا ما بنى حياتي اليومية الشديدة التنظيم في طوكيو. كما تعلم، إن أردت الذهاب إلى مكان ما، فلن تضطر أبداً إلى الانتظار لأكثر من 10 دقائق في المحطة. في طوكيو، الجميع يعمل بكدٍّ، ولا يمكننا تحديد القوانين بأنفسنا، إنما كل حياتنا اليومية بناها آخرون لنا. لذلك أردت ترك مشاريعي الفنية في هذا المجتمع المشيَّد، لخلق حياة يومية بديلة. عبر مشاريع مثل غرفة المعيشة وفندق الشمس الذات استعملت أسماء الأماكن العادية لإنشاء مساحات خيالية. ولكن بعد 10 سنوات انتهيت من خلق الحياة اليومية البديلة كمشروع طويل الأمد في فوكوشيما، وكذلك مع مشروعَي غرفة المعيشة وفندق الشمس الذات. نحتاج دوماً إلى التغيير المستمر، لذلك أردت المشاركة في حياة يومية لم أكن أعرفها. لهذا السبب انتقلت إلى إندونيسيا.
بدأ جون كيتازاوا مشروع غرفة المعيشة من خلال طلاء الجزء الداخلي لمتجر مهجور للملابس باللون الأبيض. جمع السجاد والأثاث المستعمل من المنازل القائمة في الحي، وأثث "غرفة المعيشة"، حيث يمكن للناس قضاء الوقت حسب رغبتهم/ن، أو تبادل الأحاديث أو قراءة الكتب. تنقّل المشروع بين عام 2010 وصولاً إلى عام 2016 بين المعارض والمدن التالية: كيتاموتو دانشي (كيتاموتو، محافظة سايتاما)، وريوغوكو هونماتشي (توكوشيما، محافظة توكوشيما)، وتاكانوسو (مدينة كيتاكيتا، محافظة أكيتا)، ساكماتشي-إيتشيبا (مدينة ناها، محافظة أوكيناوا)، إيزوميشتو كايكان (مدينة ميتو، محافظة إيباراكي)، رواق كوجيرغوكا (مدينة هيتاشيوتا، محافظة إيباركي)، وسانكو (كاتماندو، النيبال).
غرفة المعيشة هو أحد مشاريعي التمثيلية. وهو مشروع طويل الأمد يتناول الوضع الاجتماعي في اليابان في الوقت الراهن. لا تنطلق مشاريعي من مبادراتي الخاصة فقط، إذ دائماً ما أنضم إلى المجتمع الذي أقترح مشروعي عليه. مشروع غرفة المعيشة كان له علاقة بتحويل الفضاء: حيث غيّرت المحال الفارغة إلى مساحة عامة. فالعديد من المتاجر تغلق، لأنه في السنوات العشرين أو الثلاثين الماضية ظهر عدد هائل من مراكز التسوق في الضواحي، فتوقف الناس عن الذهاب إلى المتاجر القريبة من منازلهم/ن. كما أن عدد سكان اليابان آخذ بالتناقص…
أغلب مشاريعي ترتبط بفكرة المنزل. فللبيت الكثير من المعاني. المنزل هو واحد منها، ولكن المنزل يرتبط كذلك بالشعور، وهو ليس مجرد مكان. العديد من الناس الذين/اللواتي يأتون/ين إلى مشاريعي لا منزل لهم/ن. ومن الأمثلة على ذلك، الأشخاص الذين/اللواتي فقدوا/ن منازلهم/ن بعد التسونامي. وفي بعض المدن، لم يكن للعديد من الأشخاص المشاركين/ات في مشروع غرفة المعيشة منزلا لهم/ن. في المنطقة حيث أنشأت مشروع غرفة المعيشة، أحد السكان يعاني من إعاقة عقلية ولم يكن يملك شعوراً تجاه المنزل في المجتمع. لا يشعر بعض الناس بأنهم/ن في منزلهم/ن في أي مكان، لكنهم/ن يشاركون/ن في مشاريعي من أجل تجربتها. وهذا الأمر يتماثل مع كل مبادراتي.
في جاكرتا، المجتمع ليس مشيّداً بشكل صارم كما هو الحال في اليابان. ليس من سبب محدد لاختياري إندونيسيا، كان كل الأمر يتعلق بالانطباع الأول. لم أكن أعلم ما الذي عليّ أن أتوقعه أكثر، ولكن بالنظر إلى الوراء، يمكنني شرح ما شعرت به آنذاك. لا يوجد حياة يومية محددة مسبقاً، بالطبع بحسب وجهة نظري، وليس من وجهة نظر سكان جاكرتا. ولكنني رأيت كيف أن الناس الذين/اللواتي يعيشون/ن في جاكرتا كانوا/ن يصنعون/ن حياتهم/ن اليومية: كانوا/ن يبنون/ين منازلهم/ن من المواد الموجودة في الشوارع… قد تسمى أحياءً فقيرة، لكنها أعمال فنية في الوقت عينه. لقد فهمت سبب إنشاء مشاريعي في اليابان: أردت التدخل بأنماط مسبقة الإنشاء، ولكن لم يكن هناك أي شيء من هذا القبيل في إندونيسيا. بعد ذلك، واجهتُ حياةً يوميةً مختلفة تماما، أعتقد أنني طورت نفسي، وحصلت على مفهوم جديد لإقامتي المزدوجة. في طوكيو كان سبب رغبتي في إقامة مشاريعي سؤالاً أساسياً بالنسبة لي، لكن المجتمع كان نفسه قد خلق الرغبة. والمجتمع نفسه يحدد الفنانين/ن وينشئهم/ن. ولكن عندما أُسأل عن الإقامة المزدوجة، الحس السليم المزدوج، يمكنني الابتعاد عن القوانين المحلية، في كل من اليابان وإندونيسيا. أما الآن فأنا أبحث عن أوجه التشابه والاختلاف بين المجتمعين. منذ عامين أو ثلاثة أعوام، أعمل مع إندونيسيين/ات ومهاجرين/ات آخرين/يات يعيشون/ن في اليابان. هناك العديد من الأشخاص المختلفين/ات من بلدان مختلفة يعيشون/ن في طوكيو، لكن السكان المحليين لا يروهم/ن، لأن المجتمع الياباني إنطوائي ومنغلق.
أرض الجيران هو مشروع نظمته عندما انتقلت إلى إندونيسيا عام 2018، وذلك في مركز المدينة الإبداعي بمدينة يوكوهاما. كانت المدينة من أوائل الأماكن في اليابان التي انفتحت على دول أخرى. حيث دخلت البحرية الأميركية إلى اليابان لأول مرة عبر ميناء يوكاهاما عام 1853. لذا تتمتع يوكوهاما بتاريخ عريق من التواصل مع الدول الأخرى، سواء بالمعنى الجيد أو السيء للكلمة. نتيجة لذلك، يعيش في المدينة العديد من الجنسيات: من أميركا والفيليبين وإندونيسيا، فضلا عن أوروبيين/ات. عرضت عليهم/ن الانضمام إلى مشروعي وإنشاء أرضٍ خيالية، دولة خيالية في مكان العرض.
من وجهة نظري، يقدم المجتمع الإندونيسي العديد من الفرص، وهناك بالفعل العديد من مساحات اللقاء. لا يعتمد الكثير من السكان على الحكومة: خاصة من يعيش في الأحياء الفقيرة، أو الأشخاص ذوي الإعاقة. لكن أجواء الأحياء يمكن أن تساعدهم. ما نفذته من مشروع فني في اليابان موجود بالفعل في مجتمعات إندونيسيا. بمعنى آخر، إنه مجتمع مُضمِّن. وإذا كان المجتمع الإندونيسي لم يفشل فذلك يعود إلى انضباطهم/ن المتأصّل ومساحات لقائهم/ن. والسبب الكامن وراء رغبتي في الاستمرار بإقامة مشاريعي في إندونيسيا يكمن بأن العديد من المشتركين/ات منهم/ن ليسوا/ن على دراية بما لديهم/ن بالفعل. أعتقد أنه من المهم ملاحظة الجمال هناك، وبالتالي لا زال لديّ الدافع لإظهاره.
كما يرتبط أحد مشاريعي الأساسية في جاكرتا بمفهوم المنزل: أطلق عليه اسم مسابقة المنزل المثالي. بسبب التطوير المُدُني في جاكرتا، تشبه العديد من المناطق القرى الصغيرة داخل المدينة. في اللغة الإندونيسية يسمونها كامبونغ، وهي ظاهرة نموذجية في مدن جنوب شرقي آسيا. أصبحت الكامبونغات أهدافا للتدمير خلال التطوير المُدُني الذي نفذته الحكومة. لذلك، عملت مع سكان سابقين في أحد الكامبونغات التي هُدِمت. عام 2017، التقيت بسكان كامبونغ أكواريوم، بعد أن دعاني إلى هناك أحد الأصدقاء. عندما احتلت هولندا إندونيسيا، بنت الشركات الهولندية الكثير من المباني في شمالي جاكرتا، ومن بينها ما أطلق عليه تسمية كامبونغ. لاحقاً، احتلت اليابان إندونيسيا، وبعد حصول إندونيسيا على استقلالها عام 1945، بدأ العديد من سكان الريف بالانتقال بكثافة إلى جاكرتا والاستقرار في المناطق المتوفرة.
في شهر نيسان/أبريل عام 2016، طُلِبَ من سكان كامبونغ أكواريوم مغادرة القرية حتى تتمكن الحكومة من بناء مساكن هناك وتحويلها إلى منطقة سياحية. بعد 11 يوما، دمرت المنطقة بأكملها، كل المنازل، كل شيء. عندما زرتها بشهر آذار/مارس عام 2017، وذلك بعد مرور عام على الهدم، كان العديد من الناس ما زالوا/ن يسكنون/ن هناك، داخل الخيام أو إنشاءات مرتجلة. فصدمني المشهد. أعاد سكان المنطقة بناء منازلهم/ن بأنفسهم/ن. حيث أحضروا أشرطة الكهرباء، والمياه،… لكن وسائل الإعلام تقدمهم/ن بطريقة مثيرة للجدل، فبعضها قال إن الحكومة ليست مسؤولة إنما السكان عما حصل، لأن السكن في تلك المنطقة ليس قانونياً. كانت إحدى المناطق التي شهدت أكبر عدد من النزاعات في جاكرتا في ذلك الوقت، وقد سعت العديد من المنشورات، من بينها الناشيونال جيوغرافيك، فضلا إلى العديد من المنظمات غير الحكومية على مساعدة السكان.
عندما رأيت ذلك، سألت نفسي: ما هو المنزل؟ اضطر سكان كامبونغ أكواريوم إلى الانتقال، وكان عليهم/ن بناء منازلهم/ن بأيديهم/ن. يعيش في جاكرتا مختلف أنواع الناس، ولا يستطيع الكثير منهم/ن تخيّل ما يحدث في المنطقة. لكن على أولئك الذين/اللواتي يجبرون/ن على الانتقال أن يفكروا/ن دائما عن معنى المنزل لهم/ن، وما يريدون/ن استرجاعه ليس الأرض فقط، إنما الروح أيضا، والشعور والتواصل، ليس المرئي فقط، ولكن أيضا غير المرئي. كان السؤال الذي طرحته على الناس الذين/اللواتي يسكنون/ن في كامبونغ أكواريوم، في وضع يصعب على سكان جاكرتا تخيّله: "ما هو المنزل؟ ما هو المنزل المثالي؟" يتحرك البشر دائما بشكل مستمر، ولم يتوقفوا/ن عن ذلك أبداً. الاعتقاد السائد في اليابان هذه الأيام هو أن الثقافة اليابانية تشكّلت في فراغ، ولكن هذا الاعتقاد ليس صحيحاً. لطالما كان هناك العديد من الروابط، لأن البشر دائمو الحركة. طوال تاريخنا المديد، كنا نبحث باستمرار عن منزل مثالي.
هَدَفَ مشروعي في كامبونغ أكواريوم إلى التفكير حول ما الذي يجعل المنزل مثالياً. يحتفل العديد من سكان تلك المنطقة بعيد الاستقلال الإندونيسي من خلال تنظيم مسابقات مختلفة، مثل مسابقات الأكل حيث يتنافس الناس على تناول الطعام بسرعة. هناك العديد من المسابقات التي تنظم في ذلك اليوم. كما تشهد جاكرتا صراعاً سياسياً، لكن الناس هناك يحبون الاستمتاع. لذا أردت الربط بين تساؤلي عن الوضع السياسي مع احتفالات عيد الاستقلال، لذلك نظمت مسابقة جديدة: فكان أن تحولت إلى مشروع ترفيهي وفني في الوقت عينه. بهذه الطريقة، يمكن أن يكون ما قمت به ممتعاً، وأن يكون مشروعاً فنياً كذلك. كانت المسابقة لسكان كامبونغ أكواريوم تدور حول إنشاء منزل مثالي. كنت أذهب يومياً إلى هناك طيلة ثلاثة أسابيع تقريباً، ونناقش كل شيء. كوّن السكان سبعة فرق وكل واحدة منها عملت على نموذج لمنزل خيالي. من بين تلك النماذج: المنزل في السماوات، ومنزل ومنصة، ومنزل قابل للطي… مشروع المنزل في السماوات كان فكرة حالمة جاءت من اقتراح أطفال في كامبونغ أكواريوم. حيث قالوا: "إذا كان منزلنا في السماء، لا يستطيع أي أحد أن يأتي ويدمره."
ترجمه من الإنجليزية وليد ضو.















