(إإ)
EN / RU

الفِجري: أغاني غواصي اللؤلؤ في الخليج

تاريخ لون موسيقي متجذرٌ في التراث البحري للمنطقة

قبل اكتشاف احتياطيات النفط الهائلة في ثلاثينيات القرن الماضي، عاشت بلدان الخليج العربي نمطاً من الحياة يختلف كثيراً عما هو عليه اليوم. كان السواد الأعظم من الرجال فيما أصبح يُعرف اليوم بالبحرين وقطر والكويت وجوارها يمتهن حرفاً تتصل بالبحر وركوبه — كانوا صيادين وبناة سفن وبحارة وغواصين يبحثون عن اللؤلؤ. وكان العمل باللؤلؤ، وياله من أمرٍ مثير حتى بمقاييس عصرنا الحاضر، هو المهنة الأكثر دخلاً بين الجميع، خصوصاً لأرباب السفن وكبار التجار. بالنسبة للغواصين، ومن بينهم من استُجلبوا كعبيدٍ من شرق إفريقيا، كان الغوص بحثاً عن اللؤلؤ مهنةً نبيلة رغم صعوبتها ومخاطرها الجسام. كانت رحلات صيد اللؤلؤ تستمر بين أربعة وخمسة أشهر، يعاني الغواصون خلالها سوء التغذية والأنيميا والأسقربوط والتراخوما وقد يقضي بعضهم غرقاً أو في هجمةٍ مفاجئةٍ لأسماك القرش وأبو سيف. يقول يقول R. Kirkpatrick, “British Museum report on the Persian Gulf as a possible area for successful sponge fisheries,” 1905.محمد بن ثاني أول زعيم للقطريين "كلنا من كبيرنا لصغيرنا، عبيدُ سيدٍ واحد هو اللؤلؤ."

ولا عجب أن تتشكّل ممارساتٌ غنائية وموسيقية مختلفة حول هذه المهنة بخصوصيتها وأهوالها. يُشار إلى هذا التراث المسموع بشكلٍ مجمل بـ "الفِجري" والذي هو واحدٌ من ألوان ما يُعرف بالفن البحري بشكلٍ عام.

كما صيد اللؤلؤ، يُنظر للفِجري باعتباره فناً مُستغلقاً وغير سائغٍ للعوام من غير المختصين. رسّب هذا الانطباع مع الزمن اعتقادٌ يَنسِب هذا الفن إلى قوىً خارقة. تقول الأسطورة، أو بالأحرى إحدى نسخاتهاإحدى نسخاتهاHabib Hassan Touma, “The Fidjrí, a Major Vocal Form of the Bahrain Pearl-divers.” The World of Musiс, Vol. 19, No 3/4, 1977.، إنه وبعد رحلةٍ طويلة انتهى المقام ببحارةٍ ثلاث من دلمون إلى رحاب مسجدٍ غامض، التقوا فيه مخلوقات من الجن ظهرت لهم بصورة نصف إنسان ونصف حمار. علّمتهم المخلوقات الخارقة غناء الفِجري، وحذرتهم أن يحفظوا سره بينهم وإلا كانت عاقبتهم الموت. رحل البحارة وأخذوا معهم السر، إلا أن واحداً منهم، وبينما هو على فراش الموت، باح به لأصدقائه وأقاربه الذين نقلوه عنه وعلموه لغيرهم.

اعتاد البحارة غناء الفِجري في جلساتهم الأسبوعية بين رحلات الصيد، والتي كانت تُعقد في بناء مخصص يُسمّى الدار، وأحياناً في منزل الربّان. كانت بعض الجلسات تتسع لقرابة أربعين بحاراً، يتسامرون بين رشفات الشاي والقهوة وأدخنة التبغ الزكي ويتذكّرون أهوال البحر حتى تحين صلاة الفجر، والتي ينتسب لاسمها، بحسب إحدى الروايات، هذا اللون الفني.

هناك أيضاً ألوانٌ فرعية من هذا الفن، كالأهازيج والنهمة التي تُغنى بمواكبة سير أعمال بعينها على السفينة. تُغنى "الميداف" على سبيل المثال أثناء التجديف، وتُغنى "الباصح" أو "القيلمي" بالتبادل عند الإبحار في رحلةٍ طويلة أو قصيرة على الترتيب، وتُغنى "الخراب" عند رفع المرساة. في كلّ من هذه الأمثلة تمثل بنية الأغنية ولحنها انعكاساً مباشراً لطبيعة العمل ووتيرته.

تتألف أغاني الفِجري عادةً حول قالبٍ غنائي تقليدي يُعرف بـ"النداء والجواب" وهو قالبٌ متبعٌ في أغلب أغاني العمال حول العالم. ويقوم ربان السفينة (والذي يُسمى تقليدياً النواخذة) باستئجار مؤدي صولو محترف (يُسمى تقليدياً النهّام) لأداء الجزء الاوسط من الأغنية. خلال الرحلة لا يقوم النهّام بأي عملٍ على السفينة سوى الغناء وبعث الحماس في نفوس البحارة وتشجيعهم على العمل. يقوم النهّام عادةً بغناء مقطع طربي من طبقة حادة، فيرد عليه كورس البحارة ملبين نداءه بصيحات متناغمةبصيحات متناغمةلون موسيقي اختزالي يستعمل الأصوات والنغمات المتصلة. بين الحماس والنشوة، تعلو وتهبط بالتناغم في موجاتٍ متهادية بحدةٍ أقل. يبدو هذا التأثير الصوتي غير المألوف وغير المعروف في غيره من ألوان الموسيقا العربية، كما لو كان يحاكي صوت موجات البحر كما يسمعها الغواصون بينما هم في الأعماق.

صورة من Anthologie musicale de la péninsule arabique. Collection Simon Jargy. vol. 2 : Musique des pêcheurs de perles, 1994. يمكن رؤية المجلد كاملاً هنا .

Archives Internationales de Musique Populaire

تصف كلمات أغاني الفِجري حياة الغواصين الصعبة والمخاطر التي تنتظرهم في رحلاتهم وفي أعماق البحر، وفرحة الرجوع إلى ديارهم وأهلهم. تتطرّق الأغاني عادةً إلى مواضيع أسطورية. تتناقض نداءات التضرع إلى الله مع هيئة المعاناة الجسدية في إشارات البحارة للجرح والقدر وجبروت البحر.

يترجم يترجم Nasser Al-Taee, “Enough, Enough, Oh Ocean.” Middle East Studies Association Bulletin, Vol. 39, No. 1 (June 2005).الباحث ناصر الطايعي أشعار الفِجري من تأليف مرشد بن سعد البذالي فيقول:

يحاربون الموت وكل عناصره
بابتسامة

يا ويلي من ليال طويلة
أنظر فيها إلى هؤلاء الغواصين اليتامى
كلما مر شهر، يليه شهر
حتى تشيخ العيون


تُؤدى أغاني الفِجري دون آلات موسيقية، فقط على إيقاع التصفيق بالأيادي. كما يُستخدم فيها عددٌ من آلات الإيقاع من بينها الطبول ذات الغشائين (الطبل والمِرواس) والطبول ذات الإطار المبسوط (الطار) والصنوج المعدنية (الطس) وأباريق الماء الفخارية (الجاهلة). تصاحب الموسيقا رقصاتٌ بسيطةٌ هادئة الحركات كما هو معتاد في مختلف أشكال الرقص العربي حيث يحرّك الراقصون أيديهم بالتناغم لأعلى ولأسفل في إشارة للتعافي الجسدي. تتخلّل الرقصة البطيئة من حين لآخر قفزةٌ سريعة ترمز لنزول السفينة إلى البحر. 

عازفو الجاهلة في عرض أدائي لموسيقى الفِجري. الصورة لحبيب حسان توما. البحرين، في الثمانينيات.

مع رواج تقنيات استزراع اللؤلؤ في اليابان واكتشاف النفط في الخليج، تراجعت ثقافة صيد اللؤلؤ وأنماط الحياة التي تتصل بها. بحلول ستينيات القرن الماضي ولدى وصوله إلى البحرين أملاً في تسجيل عروضٍ موسيقية حيّة لفن الفِجري، لم يجد باحث علم الأناسة الموسيقية البريطاني ديفيد فنشوديفيد فنشوDavid Fanshawe, African Sanctus: a Story of Music and Travel, 1975. سوى أربع سفن تعمل بصيد اللؤلؤ، تصادف أن كانت كلها في عرض البحر. لتسجيل أغنية رفع الأشرعة لجأ الباحث إلى الحيلة، إذ سجل الأغنية على الشاطئ بأصوات من وجد من البحارة السابقين والذين أعادوا تمثيل رفع شراع وهمي باستخدام حبلٍ قديم رُبط إلى إطار حافلة ليبدو كمرساة ثقيلة. 

بالرغم من ذلك، شهدت السبعينيات جهوداً مكثفة لإعادة الاعتبار لهذا الفن اشتملت مساعٍ جادة للحفاظ عليه كشكل من التراث الثقافي المحلي. اندثر صيد اللؤلؤ بشكل تجاري، وعليه لم يعد من الممكن أداء أغاني الفِجري أثناء سير العمل الفعلي على السفينة. إلا أن التقليد الغنائي لجلسات غناء الفِجري يحظى باهتمام كبير يتوارثه جيل عن جيل برعاية الدولة. يمكن سماع الفِجري اليوم في مراكز التسوق وصالات الحفلات الموسيقية حيث تُدمج العناصر التراثية من هذا اللون الفني الفريد مع الموسيقا السيمفونية وغيرها من الممارسات الموسيقية الأكثر ارتباطاً بالتقليد الغربي. كذلك نشهد مؤخراً اهتماماً بالغاً من الفنانين العرب ممّن يشتغلون بالموسيقا الإلكترونية والوسائط المتعددة لإعادة تخيّل الفِجري بشكلٍ معاصر إلا أن مثل هذه التجارب لا تزال في حيز الندرة.

يمكنكم معرفة المزيد حول ثقافة الغوص وصيد اللؤلؤ في الخليج العربي من وثائقيين الأول بعنوان "البحرين: رحلة اللؤلؤ" من إعداد جمال الأحمد والثاني بعنوان "الفنون" من إعداد هشام محمد.


  ترجمته من الإنجليزية إلى العربية مبادرة الأركيلوغ.